عزيزي القارئ إن من أقوي سمات المعلم الذكي هي إلمامه بمقدرات
طلابه وإمكانياتهم العقلية ، وينطبق هذا علي المدرب الجيد ، إذ يجب عليه الإلمام
بالطاقة المتوفرة والإمكانيات الجسدية لدي المتدربين وإلا فقد عنصر الإستفادة من
الجرعات التدريبية وخسر فريقه....!
مدخلي هذا أوحاه لي موقف قديم مر بوالدي عندما كان مستجدا بقوة
دفاع السودان عام١٩٣٢ ... فقد ذكر والدي( عليه الرحمة) أن ضابطا إنجليزيا يتميز
بالصلافة كان يقوم بتدريبهم فنون القتال والتكتيك العسكري. وكان أعورا ذا عين
واحدة وإسمه مستر كوريت...( يلقب به كل أعور اليوم).
كان مستر كوريت عنيفا في تدريباته حتي إن جميع الجند كانوا يتذمرون
منه لأنه لايرأف بالضعاف ويعتبر أن الجميع بإمكانهم أداء التدريب بنفس المقدرة دون
الأخذ بالفوارق المكانية أو طبيعة حياة الفرد....!
وكان أفراد السرية التي يقوم بتدريبها جميعا من أبناء الجبال وليسوا
بأهل بحر( نيل) ولذلك كانوا لايعرفون السباحة أو التعامل مع المرافق المائية ...
وكان صاحبنا غير ملم بهذه الميزة وإنعدامها عند أبناء النوبة بشكل خاص.
وفي ذات يوم أمر الضابط كوريت أفراد السرية بإرتداء كامل العتاد
الحربي( لبس تلاتة) وهي مجموعة من المعدات التي تلزم الجندي أثناء تواجده بمناطق
العمليات مع الذخائر وقطع السلاح الشخصي.... تجهز الجميع ثم أمروا بالسير لشاطئ
النيل( بكوستي)... وإختار الضابط بقعة تتميز بعمق المياه ووقف يشرح للجنود عن
كيفية التعامل مع التضاريس المختلفة وأنواع السباحة وإنقاذ الغرقي... ولم ينتبه
إلي نوعيه الرجال الذين يتحدث أمامهم وإنهم ليسوا بأهل بحر....!
وقف الجنود صامتين لايدرون كيف يمكنهم شرح عدم تنفيذهم لأمر هذا
الضابط رغم إطاعتهم وتنفيذهم لجميع أوامره السابقة.... ولكن أراد الله إنقاذهم مما
هم فيه من حيرة إذ بدأ الضابط شرح المهمة ثم تطبيق الأمر بنفسه كما جرت العادة
العسكرية ويسمونها( بيان بالعمل)... وقفز الرجل إلي الماء بكامل عتاده ومايحمله من
سلاح( أبوعشرة)... ونسبة لعمق الماء وتشرب مايرتديه بالماء ثقل وزنه وغلبه الطفو
علي سطح الماء والسباحة.... وصار يغطس ثم يطفو وبدأ أنه يغرق لأنه أصبح يمد ذراعه
طالبا النجدة فأراد أحد الجنود ممن كانوا بقربه علي الشاطئ مد يده لإنتشاله مما
تورط فيه فإنتهره أحدهم قائلا بالأنشونوي... توقي... توقي ( أي دعه.. دعه)... ولكن
الجندي رأفة به أمسكه وإنتشله من الغرق...!
بعد أن أخذ الضابط نفسا وإطمأن علي نجاته جمع الجنود مرة أخري ووجه
لهم سؤالا وجم علي إثره الجميع، إذ قال لهم... مامعني... توقي..؟
تلفت الجند وشملهم الصمت فبدأ يسألهم فردا فردا والكل يحاج بأن هذه
الكلمة ليست بلغتهم... فعلم الضابط أنه وقع في مكيدة أجمع عليها الكل وإنه لابد أن
يسبر غور هذه العبارة التي سمعها أثناء لحظة مكابدته للنجاة من الغرق فدبر أمرا
ونوي تنفيذه.
قال والدي... ذهب مستر كوريت( الضابط) وإشتري كمية من البلح وقصد
لساعته قشلاق( مساكن) الجيش وجمع إليه أبناء الجنود وأمرهم بالمصارعة وجعل يشاهدهم
ويمنح البلح للفائزين دون تعليق حتي أتته الإجابة فجأة وذلك حين رمي أحد الصبية
نده علي الأرض وجثم علي صدره فخاطبه أخ له قائلا... توقي... توقي... وهنا سأله
الضابط عن معني العبارة فأجابه تعني... دعه... دعه.
وفي طابور الصباح أتي مستر كوريت وعزل الجنود من الأنشو وخاطبهم
قائلا... لماذا قلتم لأخيكم بالأمس توقي ... توقي... ليتركني فأغرق . وماالسبب؟
فأجابه أحدهم بعد أن إستاذن بأن سيادتك غير ملم بإمكانيات أولاد النوبة وقوة شكيمتهم. وإنهم كثيرا مايجدون المشقة أثناء التدريبات الغير معهودة لديهم ولكنهم يجتازونها بصبرهم وإصرارهم... وأما عن تدريبات الأمس والخاصة بالسباحة فأنت لم تسأل إذا كنا نجيد السباحة أم لا ولكنك بدلا عن ذلك طالبتنا بتنفيذها وذلك كان سيؤدي بفنائنا جميعا غرقا... ولذلك رأينا أنه من الأفضل أن تغرق أنت ويبقي الجنود ويأتي قائد آخر يعرف خصائص أبناء الجبال ونتدرب علي يد خبير بظروف البشر والتضاريس التي يعيشون فيها فترتفع إمكانيات ومعنويات الجيش بدلا من إستيائهم لموت سرية كاملة نتيجة تصرف أهوج من قائد غير خبير .
فأجابه أحدهم بعد أن إستاذن بأن سيادتك غير ملم بإمكانيات أولاد النوبة وقوة شكيمتهم. وإنهم كثيرا مايجدون المشقة أثناء التدريبات الغير معهودة لديهم ولكنهم يجتازونها بصبرهم وإصرارهم... وأما عن تدريبات الأمس والخاصة بالسباحة فأنت لم تسأل إذا كنا نجيد السباحة أم لا ولكنك بدلا عن ذلك طالبتنا بتنفيذها وذلك كان سيؤدي بفنائنا جميعا غرقا... ولذلك رأينا أنه من الأفضل أن تغرق أنت ويبقي الجنود ويأتي قائد آخر يعرف خصائص أبناء الجبال ونتدرب علي يد خبير بظروف البشر والتضاريس التي يعيشون فيها فترتفع إمكانيات ومعنويات الجيش بدلا من إستيائهم لموت سرية كاملة نتيجة تصرف أهوج من قائد غير خبير .
إستمع مستر كوريت لحديث الجندي ثم لبث ساعة من الزمان وأخيرا أصدر
أمرا لضباط الصف بأن تصبح التدريبات بعد هذا اليوم بناء علي الإحاطة بالظروف وميزة
التضاريس وإستعداد ومؤهلات الجنود الجسمانية.... وكانت تلك الأوامر من أبرز عناصر
نجاح جنود قوة دفاع السودان في جميع المهام التي أوكلت إليهم أثناء الحرب العالمية
الثانية في مختلف بقاع العالم بتضاريسه المتباينة.
0 comments:
إرسال تعليق