قال محدثي أن الأمير تجهز لمغادرة معسكرة (بالمشيشة) التي تقع بالقرب من البقلتي وكان قد دخلها في السابق عنوة حيث إرتكب فيها مجزرة تسمي بموقعة"دنقر" أسال فيها من الدماء ماإن أهالي البقلتي مازالوا يتحدوث عنها ويذكرونها إلي يومنا هذا... حيث ذبح الرجال ذبحا كالماعز وسبي من نسائهم عددا كبيرا ونهب من بهائمهم أعدادا لم يحتاج معها طيلة وجود جيشه إلي مؤن غذائية أخري...!
تحرك الجيش وأمامه أرتال من البهائم والبشر وكان لضخامة العتاد المحمول والماشية ومجموعات الرقيق والعسكر أثرا في بطء سير حركة الجيش حيث وصل الجيش إلي الأبيض بعد عدة أسابيع وعسكر بها بإنتظار حضور جيش الأمير "سنين" القادم من الغرب...!
أضاف محدثي أن الأمير حمدان أبوعنجة تخفيفا لثقل حركة الجيش بدأ في بيع وتوزيع العبيد وتجنيد من يرغب منهم من الرجال في مجموعة أو سرية أسماها( الجهادية السود)... هذه السرية كان قوامها أبناء النوبة الذين أسروا أثناء معارك المهدية وكان يستعان بهم في رعي البهائم وحمل المؤن وسوق الرقيق أثناء تحرك وإرتحال الجيش من مكان لآخر...!
وأضاف إن الأمير حمدان عندما مر بالأسري من الأنشو ورأي فتيانهم يتمتعون بأجسام قوية وعضلات مفتولة وقف وتفقدهم مليا ثم أمر أن يأتوا إليه بقادتهم وزعمائهم إن وجدوا ضمن الأسري...!
وكان ممن وجدوا من الزعماء أحياء:
* كوركيلي من النما
*كجور بول من مرنج
*كجور أونبيل من نيجا
*كجور ويكون من الكرقل.
أدخل الزعماء الأربعة علي مجلس الأمير حيث تحدث معهم ووضع أمامهم خيارين... إما أن يبايعوا الأمير بأسم المهدية ويتم تجنيدهم وأهلهم ويعينوا قوادا لمجموعتهم وإما أن يوزعوا أو يباعوا لتجار الرقيق هم ومن يرأي رأيهم...!
ترك الأمر لكوركيلي إذ كان أكبرهم سنا وأعلمهم باللغة العربية وطبائع العرب وجند المهدية إذ كان فيما مضي يجوب مناطقهم لقضاء أغراضه التجارية...!
رجع الزعماء إلي ثكناتهم المحتجزون بها تحت حراسة مشددة وبدأوا في التشاور مع بقية أخوانهم حيث إتخذوا رأيا واحدا ألا وهو عدم إشتراكهم في فظائع المهدية التي ترتكب بل قرروا الفرار والعودة إلي الجبال ماوجدوا إلي ذلك سبيلا... خاصة وإن بينهم من له الخبرة بدروب وطرق العودة دون الوقوع في أيدي قوات المهدية وتجار الرقيق الذين يجوبون المنطقة...!
في منتصف الليل تقمص الأورو كجور أونبيل من نيجا فقام يترنم بلغة الكجرة فسمعه كوركيلي إذ كان كجورا مثله فإقترب منه حيث سمعه ينشد قائلا:( أونبيلا... أربي إليرونق...
إيري نالدي كولي كوليا...
كولقي... أراندونقولقي...
ناري نقولي كوليا...
والمعني يا أونبيل بعد وصولك إلي بلاد العرب ورؤيتك لمنازلهم... فإنك لابد مقيم عندهم في بيت كبيوتهم...!
وذلك دلالة علي عزمه البقاء وعدم العودة للجبال .... وذلك لأن( لديه عذر) هنالك شرطا وضعته زوجته للعودة إلي داره ألا وهو إعادة أبنائه... وهو لم يجدهم فماجدوي العودة والوقوع في المشاكل مع زوجته.... والمسكين لم يعلم بعد أن بنيه عادوا إلي البيت من ورائه تامين سالمين...؟
فهم كوركيلي مقصده فأمسك بتلابيبه مهددا أن سيضربه بالأودل الذي يحمله( سيف كوشي معقوف كانت الملوك والفراعنة يحملونه كصولجان ملكي)... وإلا فعليه عدم مخالفة رأي الجماعة ولكن أونبيل ألح مترجيا تركه وإنه لاحيلة له إلا البقاء...!
في الصباح أقتيد الزعماء إلي الأمير ليعلموه بما توصلت إليه مجموعة الأنشو... فإبتدره كوركيلي كناطق عنهم بأنهم علي إستعداد تام للإنخراط فورا في جندالمهدية ولكن لا دراية لهم بإستعمال وإستخدام السلاح الناري( البندقية) فطمأنهم الأمير أن الأمر سهل وإنه سوف يبدأ في تدريبهم عليه وعلي القتال به فورا....!
بدأ التدريب حسب وعد الأمير... إذ كان متشوقا لتجهيز جيشه وزيادة عدده حتي يذهب للبقعة بهذا الكم الهائل من الجيش منافسا به بقية أمراء المهدية... وبفعل ذكاء وحصافة الأنشو فقد تعلموا الأمر بسرعة لم يحتسبها الأمير بل وبرع منهم أناس في السرعة والتنشين... وهنا إستقر رأي الأمير حمدان علي أمر آخر فقرر تقديم المجندين من الأنشو في مفرزة بإحدي القري المجاورة بقيادة أحد القادة من أبناء العرب وذلك ليري مدي طاعتهم ويقف علي براعتهم وقوة شكيمتهم في العراك بالسلاح الناري بعد أن رأي سرعة إستيعابهم للتدريبات القتالية....!
قال محدثي إن الأنشو عندما علموا بخطة الأمير الخبيثة قرروا الإستفادة منها في تنفيذ خطتهم بالهروب فإصطنعوا الطاعة وأبدوا إستعدادهم لتنفيذ الأوامر ... وطلبوا المثول أمام الأمير فأدخلوا عليه حيث قال زعيمهم كوركيلي للأمير إن من عادات وطقوس الأنشو إذا أرادوا الحرب أن يحتفلوا ليلا ويقومون برقصة الحرب ويتوسلون بها إلي كجورهم للتسبب بالنصر كما وإنهم يشربون الخمر( المريسة) في حفلهم هذا حتي تعينهم علي البقاء طيلة أمد المعركة دون أن يعطشوا أو تجف أبدانهم من العطش.... فأمر الأمير أن يلبي طلبهم( الشائع أن غالبية قادة جيش المهدية كانوا يعاقرون الخمر كأمثال النور عنقرة)... ولكن يجب أن تحرسهم الجنود وتراقب حفلهم طوال الليل ودعم قوله بأن وهبهم شيئا من البهائم لذبحها وإطعام أسرهم...!
قبيل منتصف الليل بدأ الحفل وبدأ الأنشو في إحتساء الخمر( البيجي) وكانت من ضمن الأسري حكامة( أوردير) تسمي"بي ليه" فأبتدرت إلي الشندوكولا حيث غنت قائلة: جوكوندوا كودو كينقيندي كواكيرو....؟
وادي سما ندوكال أل أوقورمينق...
والمعني جبل جوكو ماأطيب سكناه...
ولوجود وادي سما ففؤادي يأباه...
وعند سماعهم هذه الأغنية تسابق الصبيان إذ أخذهم الحماس فنسوا أنهم مأسورين وبدأوا في ضرب الأرض بأرجلهم حتي تطاير علي إثرها الكدو ( الغبار) وغطهم وأصبحوا هم ولون الأرض سواء.... وإذ حمي وطيس الحفل أطلقوا الأعيرة من بنادقهم حماسا وتعالت الصيحات من الحناجر....!
وفي غمرة الرقص وحماستها لم يجد الحراس بدا من الإشتراك فيها فأنطلقوا راقصين وتسابقوا محتسين من خمرها حتي الثمالة إذ لم يكونوا من محترفيها كما كان الأنشو يداومون في نفائرهم وإحتفالاتهم في بلادهم... إضافة إلي أن كوركيلي المعروف بدهائه طلب من النساء القائمات بتصنيع الخمر بأن يعطوا جنود الحرس من الخمر الخام الذي لم تضاف إليها الماء ويسمي( بيجي بوج) أو( بيجي بوور) أي الخمر الصلب أي غير السائل وكما يسميها العامة من معاقريها ( دبوبة)... وهي ذات مميزات عجيبة... أولا أنها تمتاز بعسولة الطعم والمذاق وتمتاز بشئ من الصلابة كما المرقة( المديدة) ولذلك فهي تلعق لعقا ولاتشرب ولايكتفي منها طاعمها أبدا بل يطالب بمزيدها حتي يذهب بماتبقي له من عقل إن كان ذا عقل أصلا... ثم إن لها من التأثير علي العقل أضعافا مضاعفة من تلك السائلة فلذلك أمر كوركيلي بإعطائها للجند....!
وماهي إلا سويعات حتي غرق الجند في سبات عميق من إرهاق الشندوكولا وإهراق كميات عظيمة من الخمر في تجاويف بطونهم حتي إمتلأت بها وفاضت إلي رؤوسهم التي لم يستطيعوا التحكم في أطرافها الحسية( عيون أذان ألسن)... وهنا إلتفت كوركيلي إلي قومه أن حانت ساعة الصفر.... فماذا حدث ياتري.؟ نواصل لاحقا
0 comments:
إرسال تعليق