عدنا بالأمس من رحلة مضنية محملين بما (خف وحلا ) من العيدية
متخمين بها جيوبنا وأفرغناها في الكور السلطانية كمخزون إستراتيجي.
وكانت أجمل ساعات الترفيه تبدأ عند العصر حيث كنا علي موعد مع
الطرب والغناء علي إيقاع الكرنق الذي تستمر أيقاعاته العالية تسمع ليلا طيلة أيام
التشريق الثلاثة... وكانت أشهر ميادينه هي دارة (ميدان) في منطقة (نقوندوبى) فى
كابيلا..... وفى منطقة ( كوندو) في قرية شوول ..... ودارة منطقة ( شولي نقولي) في
دكل... وقرية دليبة وكلاندي بالإضافة إلي كرير(غرير) في أقصي الشرق في قرية
ودأبودحشة... وكان الناس يشدون الرحال إلي تلكم المضامير للإحتفال طربا بمجئ العيد.
ويومها كنا علي صغر سننا نتحايل للذهاب مبدرين إلي الدارة(ميدان الكرنق)
حاملين أعواد الحطب لزوم الإنارة ليلا لأن القمر يغيب مبكرا فنستعيض بضوء الحطب
حيث نشعل أوراها فرحين ...
وكنت يومها تري البورجيلي يتبخترون حاملين العصي المختلفة المسميات
حيث تجد من يحمل (الكرتبو) وهي عصاة خفيفة قصيرة تنتهي بصامولة معدنية مدورة من
مخلفات العربات وتروس ماكيناتها... ومنهم من يحمل عصاة تسمي (تونكرون) وهي عصاة
تتخذ غالبا من شجر السدر تنتهي برأس ضخمة تنجر نجرا دائريا... ومنهم من يحمل
(سفروق) وهي عصاة مقوسة تشبه آلة البومرانج الأسترالية... أما ملوك
الدارة(الميدان) يومئذ فكانوا حملة الأسلحة النارية من ماركة المرمطون متمنطقين
بالشكليت ( حزام الذخيرة) الجلدي ذي السيور المتدلية معطية جمالا أخاذا لمن يراها...
وكنا نشاهد الحكامات الشهيرات أمثال ستنا موسي وكنرتى زوجة المك
مأمور نيتو....وعشة مكادى.....ونانا زوجة شانى... وحميرا وغيرهن يأتين مصحوبات بأترابهن
وهن سافرات يحملن تيابهن مطبقة علي أكتافهن وماشطات شعورهن بجدائل تنتهي بخضاب
(التربال) الذي تأتيك رائحته العودية الذكية من علي مسافة فتنتشي بها...
وماإن يبدأ إيقاع الكرنق بعد أن يأخذ الكل موقعه حتي يكون أول
الداخلين وسط الدارة هم البورجيلي القادمين حديثا من الخرطوم ومدني وكوستي... وكنا
نميزهم بلبسهم الشيك من بناطلين الجبردين والجي فايف والإسموكنج وقمصان التيل التى
يحشونها حشوا لتظهر أحزمتهم الجلدية اللامعة في وسطهم ويلبسون نظارات البيرسون
(البيرسول) وساعات الرومر والجوفيال وأبو سمكة وأم درمان...... وتميزهم بعطر
الكافين كافي القوي... كما إنهم كانوا يحملون بأديهم بطاريات الطورش (أبوتلاتة)
بدلا عن العصي وذلك لزوم الإنارة ليلا....
يدخل هؤلاء العاصميون (المتحضرون) تحت نظرات الإمتعاض والحسد من
الآخرين لتميزهم وأناقتهم... يدخلون الدارة في صف طويل لا ليرقصوا بل ليبشروا
ويعرضوا أمام الفتيات ويمشون الهويني أمامهن رافعين صرخات الحرب والحماس ومنهم من
يستل سكينا ويرفعه عاليا وآخر عصا ويمرون أمام الحكامة مبشرين وكل يقول جملة
تفاخرية أمامها ومنهم من يضع ورقة مالية علي رأسها ... ويستمر الصف حيث يدخل بعض
البورجيلي من أولاد الفرقان الذين أصابتهم(الحرقة) لتبختر أهل المدن أمامهم
فيعرضون هم بدورهم وهنا تمتلئ الساحة بعبق الحليب ورائحة العرق القوية التى تميز
أولاد الفرقان من غيرهم....
وربما دخلوا كدفعة يضربون الأرض بأرجلهم ضربا حتي بدون إيقاع الكرنق وإنما فقط علي لحن أغنية الحكامة مستعرضين قوة ضربات أرجلهم في تحد سافر وكأنهم يرسلون رسالة لشباب المدن المتبخترين بلبسهم وعطورهم قائلين لهم ومن لكم بجدارة الرقص وقوة الضربات أيها المتشدقين... أرونا مالديكم غير اللبس والإكسسوارات...
وربما دخلوا كدفعة يضربون الأرض بأرجلهم ضربا حتي بدون إيقاع الكرنق وإنما فقط علي لحن أغنية الحكامة مستعرضين قوة ضربات أرجلهم في تحد سافر وكأنهم يرسلون رسالة لشباب المدن المتبخترين بلبسهم وعطورهم قائلين لهم ومن لكم بجدارة الرقص وقوة الضربات أيها المتشدقين... أرونا مالديكم غير اللبس والإكسسوارات...
نعم هكذا ظننتهم يقولون في أنفسهم وهم يضربون الأرض بأرجلهم في قوة
وكأن بينهم والأرض ثأرا قديما. أو أنهم يريدون إثارة عاصفة ترابية تغطي أجساد شباب
المدن بالدارة وتنزع عنهم مايرتدون وتفضحهم بأن ليس عندكم خلاف ماترتدون.
ثم فجأة يدوي صوت الكرنق الذي كان طيلة فترة العرض السالف الذكر
تجري عليه بعد التعديلات ودوزنة الصوت بتعريض جوابنه علي لهب النار لتجفيف الجلد
من ناحية تسمي(التنبل) وهو الجزء ذي الصوت الرقيق وببل الجانب الآخر بالماء
وتليينه ليصبح رخيم الصوت وخلال ذلك يختبر بنقرات خفيفة من الأصابع كنا نطرب لها
أيما طرب لأن هذه النقرات ماهي إلا مقدمات لهدير إيقاع قادم...
وبمجرد أن يبدأ ضارب الكرنق في إيقاعه إلا وتجد الكل مندفعا لوسط
الدارة يريد تقديم أجمل مالديه حتي إن المساحة كانت لاتكاد تكفي لهم فيبرز من ينظم
الناس وإعادتهم لأماكنهم وبالتالي يعيد لهم عقولهم التي طاشت مع إيقاع الكرنق الذي
مازلت أذكر صداه وهو يعيد قائلا... جبل دكل.. جبل دكل.. جبل دكل.... أو يردد ...
كرم البنات كتلني... كرم البنات كتلني... كرم البنات كتلني... وآخر موضة إيقاع
سادت كانت تقول... حبيبي فنتاستك... حبيبي فنتاستك ... فنتاستك فنتاستك... وصوت
الحكامة وجمال (بنات بلدنا)...
ومازلت أذكر جمال الفتيات يومها وهن ماشطات شعورهن مضيفات لجدائلها
شيئا من (الديلي) وهي نوع من الخرز ناصع البياض ومتقلدات بقلائد(الأندي) أو السكسك
مختلف الألوان في جيدهن وكل تحمل منديلا مطرزا يدويا بالحرير ومعطراً بمختلف أنواع
العطور ومن أشهرها .....بنت السودان..... فتنة ..... وسيد على الميرغنى.....كافن
كافى....
وكانت تتاح لنا فرصة كأطفال للدخول والتعبير عن شعورنا مع من هن في
أعمارنا من البنات اللائي كن يقفن خجولات وقد تدثرن بالطرح على رؤسهن في جانب صف
الفتيات الأكبر سنا وكن يشاركننا بالرقص فى شئ من الخجل ولكن بحماس شديد وكنا نلفت
إنتباه الكبار بحماسنا أثناء الرقص بإطلاق صرخات عالية إسوة بالفتيان الكبار
فيعلقون مبتسمين ومادحين لنا لخسن أفعالنا تلك... وقد يشجعون هؤلاء البنات
الصغيرات بالدخول وإختيارهن والرقص معهن أحيانا...
وتستمر الإحتفالات حتى موعد منتصف الليل وقد غلب النعاس معظمنا وأرهقنا
السهر ومابذلناه من جهد في الكرنق يعلن عن إنتهاء الإحتفال فنسرع في إيقاظ إخوتنا
الذين غالبهم النعاس فمنهم من نام بجانب النار مستدفئا ومنهم متكئ على منسأته (
عصاته )ونام كأنه النبى سليمان فى زمانه وهو يراقب مردة الجن وهم مسخرين
لخدمته..... ونتبع أهل قريتنا عائدين وهم يعيدون ويحكون الطرائف التي حدثت ضاحكين
بأصوات عالية توقظ النائمين في بيوتهم وتقلق نومهم ولكنهم لايتذمرون لأن تلكم
الأصوات والضحكات تدل علي سلامة عودة بنيهم وبناتهم من تلك الفيافى آمنين ويجعلهم
مطمئنين فينقلبون فرحين على أسرتهم علي جوانبهم ويواصلون شخيرهم غير مبالين...
وكيف لايبتهجون واليوم يوم شوكور (إحتفال) كما يقول الأونشو... والدنيا عيد والكل سعيد... وكل عام والكل بخير.
وكيف لايبتهجون واليوم يوم شوكور (إحتفال) كما يقول الأونشو... والدنيا عيد والكل سعيد... وكل عام والكل بخير.
0 comments:
إرسال تعليق